لست أعتقد أن شيئا مما يدعونه خفاء في الأحكام الشرعية بشأن الاختلاط بين الجنسين صحيحا بحال.
فالشريعة واضحة جلية والأحكام الشرعية ظاهرة بينة , ومن حاول أن يصفها بشىء من تناقض عاد حكمه على نفسه المتناقضة.
ومن وسمها بخفاء فثم خفاء في رؤيته الشخصية وضبابية في معلوماته الخاصة..
المفتشون عما يمكن أن يثير الخلافات في الرؤية الإسلامية للبناء المجتمعي أو التكوينات الجماعية عادة ما تكون لهم أهداف مختلفة.
وغالبا ما تكون لهم دوافع غير تلك التي يعبر عنها بالحديث عن خفاء في جانب تشريعي أو تشكيك في وضوح أحكام ما..
وحتى إذا خفيت بعض المعاني أو المعلومات أو الأحكام عن آحاد المسلمين , فإن منظومة علمية يمثلها علماء الأمة وفقهاؤها ترد إليها تلك المسائل , فتجلي الخفاء وتوضح المعنى..
هناك لون منتشر من صراع دائر , بين المحافظين عن ثوابت أمتنا الشرعية والعرفية والاجتماعية من جهة.
وبين آخرين يحاولون إخراج ذلك المجتمع إلى صورة أخرى بحسب رؤيتهم التي قد تأثرت بالشكل الغربي أو بالمجتمعات التي يرونها لاتحكمها الضوابط ولا الأعراف..
تلك الصورة الجديدة التي يحاول هؤلاء إخراج مجتمعاتنا إليها قد تحققت بالفعل – بأثر نشاطهم المتصاعد والمدعوم عالميا – في كثير من بلداننا الإسلامية.
فتشققت الأسرة , وتفرد الأبناء بقراراتهم الغير مدروسة , وصار التقليد للعادات الغربية عرف جديد , وأتيحت الفرصة للأفكار الشاذة والأفكار المتحررة من أي نوع من مبدأ أو قيد..
الصراع بهذه الصورة يتبلور بين أصحاب المبادىء الدينية والقيمية من جهة وبين طائفة متأثرة في بنائها الفكري بالبعد عن المناخ الديني والقيمي.
و الانبهار ببريق الأضواء والتكنولوجيا وآثارها ومن ثم التسليم لها , غير مفرقين في ذلك بين بناء الإنسان وبناء الآلة..
الرؤية الحضارية:
هذا الخلط الواضح في المفاهيم المتعلقة بالعلاقات بين أفراد المجتمع وأسلوب ضبطهم القيمي والفكري ومحددات استقائهم للثقافة العالمية المختلفة - والذي يصور في وسائل الإعلام على أنه تطور حضاري وتصور تقدمي فيما يخص الملفات الاجتماعية المختلفة - لا يفرق بين ما يصلح أن يكون في مصلحة الإنسان وما هو في اتجاه التوسع المادي مما قد يكون ضارا به.
ولست بحاجة أن أوضح أن فارقا كبيرا بين بناء الإنسان وبناء المادة , وأن مجتمعاتنا بحاجة إلى بناء الإنسان الفاعل والمتميز قبل البحث عن استيراد المواد المعلبة والمخلوطة بالتكوينات الغريبة عن مجتمعاتنا.
لاشك أن هناك منطقة ملتحمة يرتبط فيها الإنجاز بالإنسان , وتلتصق فيها معاني الرقي والتقدم بالقوة التكنولوجية والتقدم المادي, لكن ذلك لا يجب أن يقوم على إذابة التكوين الإنساني للفرد والمجموع في بيئتنا المسلمة..
أقول ذلك في معرض الرد على الداعين إلى تغيير منظومتنا القيمية وعقدنا الاجتماعي الديني الإسلامي في بلادنا رغبة في اللحاق بركب الحضارة..
إن الرؤية الحضارية بمفهومنا هي تلك الرؤية التي تحقق ذات الإنسان الصالح وتقيم مجتمعه الطاهر وتحقق القيم السماوية الموقرة , ومن ثم تكون الآثار الإنسانية مبنية على صالح الإنسان لا على استخدامه وإذابته وتسخيره لها.
ومن ثم أيضا يكون انتاج الإنسان الحضاري إنتاجا نافعا على شتى المستويات لايخدم وجها دون وجه ولا يهتم بطوائف دون أخرى ولا ينمي جانبا على حساب جانب.
إن دعوى الحضارة المرتبطة بالأثر الإنتاجي والتكنولوجي وحده والانبهار بذلك هي دعوى ناقصة بالتأكيد لأن الإنسان في تجربته الغربية فقد كثيرا من مقومات إنسانيته في حين تضخم أثر الآلة والحجر في حياته , صرنا نرى غابات إسمنتية تحكمها آليات بلا شفقة ولا رحمة ولا أخلاقيات ولا قيم!!
لقد بدأ ذلك منذ عقود طويلة , ونلحظ أن هؤلاء الداعين إلى ذلك النوع من التغيير هم أولئك الذين تركوا أنفسهم استسلاما للفكر الغربي الحديث المتحلل من القيم الدينية , مع حالة انبهارية من التقدم الغربي كما ذكرنا..
غالب هؤلاء قد أمضى فترات طويلات قريبا من تلك المجتمعات سواء عن طريق الدراسة فيها أو العمل أو الهجرة أو الخلطة بشكل أو بآخر.
كما يجمعهم أيضا وصف آخر وهو ضعف صلتهم العلمية بالمعاني الإسلامية وضعف اعترافهم العقيدي بأن المصلحة العليا للإنسان والمجتمع قد حددها المنهج القرآني العظيم تحديدا ظاهرا معلوما.
إنهم يخاطبوننا عادة من خلال بيئتهم التي ترعرعوا فيها وخلفيتهم الثقافية التي ينطلقون منها , حتى إنهم لا يتفهمون غالبا ذلك النوع من الاستمساك بالثوابت الإيمانية ويرونها نوعا من تحكم وتشدد غير مبرر!!
إنهم يستغربون ويغضبون ممن يصفهم بأذناب الغرب أو بأصحاب المشروع المناهض للدين, وبينما يستنكرون تلك الأوصاف , فإنهم يرون أنفسهم مخلصين لأفكارهم ودعواتهم , بريئين من اتهامات لهم بالعمالة والانتفاع , بينما هم يستميتون في الدفاع عن أفكارهم..
وبرغم أن كثيرا من أصحاب دعوات التحرر من القيد الديني هم بالفعل من المنتفعين والناقمين على الإسلام.
فإن هناك طائفة لايحملون حقدا على الدين وربما يريدون بالفعل تقدم بلادهم وتطور مجتمعاتهم , ولكنهم إنما يشتغلون بمهامهم تلك بناء على ما ذكرناه من بنائهم الثقافي والفكري عبر سنين طويلة من البعد عن الإسلام والانغماس في حضارة مادية لامقام فيها للدين عموما وللإسلام خصوصا.
العلاقة بين الجنسين:
علاقة الذكر والأنثى دائما ما كانت علاقة تكامل وبناء لا علاقة نفور وتحد , فالله سبحانه قد خلق حواء من ضلع آدم عليه السلام.
يقول سبحانه: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا"، قال العلماء: خلقها منه وأخرجها منه كما تخرج النخلة من النواة أو النبتة من البذرة.
وظلت تلك العلاقة مضبوطة بضوابط سماوية منذ بدء الخليقة , ولم نلحظ أي نوع من شذوذ في أدائها إلا مع تجاهل تلك التوجيهات السماوية والضوابط الإلهية..
لقد قامت تلك العلاقة على محاور أساسية كفلت نجاحها وإقامة مجتمعات صالحة وقوية بها.
وتتمثل تلك المحاور في: (تقسيم العمل بينهما بما يناسب طبائعهما الخلقية والخبروية , وتقدير دور كل منهما للآخر واعتباره واحترامه ودعمه , وتقنين العلاقة الجنسية بينهما ووضعها في أطر محددة)
هذه المحاور الثلاثة قد اعتبرتها القوانين السماوية أفضل اعتبار , فجعلت للمرأة دورا تربويا واجتماعيا وفكريا وعلميا وإصلاحيا كبيرا في مجتمعها , بينما كفلت مسئولية الشدائد الجسدية والمادية والصراعية والقيادية على عاتق الرجال.
كذلك فقد أمرت باحترام الأدوار وتوقيرها ودعمها من كل جنس لآخر , واستنكرت غاية الاستنكار على هؤلاء المقللين من دور الجنس الآخر على أي مستوى.
وضبطت الاحتكاكات والعلاقات الجنسية بضوابط تمنع الرزيلة وتحفظ الأنساب , وتكفل النظافة والطهارة للمجتمعات.
لقد حاولت المجتمعات الغربية أن تتعدى تلك المحاور , وتغير من أنماطها وأسلوب تطبيقها فكان نتاج ذلك أمامنا.
أنموذجا مستغربا على الطبيعة الإنسانية , فتخلت المرأة عن دورها التربوي في بيتها ومؤسساتها الاجتماعية , كما تنصلت من دورها الاجتماعي في بناء نموذج المرأة المصلحة لبنات جنسها , وتركت علاقاتها الجنسية بلا ضابط ولا قانون..
أن ظهور الحداثة المنفصلة عن القيمة في الغرب جعلها ترى كل شيء في إطاره المادي، حيث كان الأمر ابتداءً العقل ثم الجسد ثم صار الجنس، وكل هذه الأمور حلت محل مفهوم المادة , فالجسد أصبح منفصلا عن القيمة، ولذلك الجنس انفصل عن المودة والزواج والإنجاب وأصبح عملية إجرائية محضة.
النتيجة أمامنا , أن اعتبر جسد المرأة عالميا أكثر السلع رواجا , والتصقت صورة المرأة العارية بشتى الدعاية والإعلانات , وصارت داعية على كل باب رذيلة , وساهمت مساهمة كبيرة في تلوث المجتمع بالسعار الجنسي البغيض.
من جانب آخر فقد تقلص دور الرجل وغابت مروءته في تلك المجتمعات وزاحمته المرأة مزاحمة لم ترفع من قدر مجال المشاركة بقدر ما أدت إلى البطالة وضعف الأداء وأمراض مؤسسية متكاثرة أخرى.
لست أحاول ههنا التقليل من دور المشاركة الفعالة للمرأة الذكية والمنتجة في مجتمعها.
ولكنني أؤكد على أن دورها ذلك المأمول ينبغي أن يكون في إطار من الضوابط التي تحفظ قدرها وقيمتها وتستطيع عن طريقه من أداء أحسن أدوارها وأفضل آثار لها فيما يمكن أن تقدمه فتحسن فيه..
ضوابط ومحددات..
لقد ضبطت القيم الإسلامية موضوع الاختلاط بين الجنسين بضوابط باهرة.
تتيح لكل جنس ممارسة أثره الإيجابي , وهي في ذات الوقت تمنعه من سوء استغلال وجود الجنس الآخر , تشجعه للإنتاج والإنجاز والتعليم والتعلم , دون أن ينتج عن ذلك نتاج سلبي يمس الفرد أو المجتمع..
لقد أتاحت لكل جنس من ذكر أو أنثى أن يعلم ويتعلم ويتفاعل ويؤثر , أن يكتب وينشر , أن يحاضر ويخاطب , أن ينتقد ويشجع , أن ينصح ويدعم , أن يشارك برأيه وبصوته وبفعله , أن يختار ويؤيد كما يمتنع ويعارض.. إلى غيرها من مختلف فعاليات المجتمع المعاصر..
لكنها حفظت تلك الفعاليات بمحددات مبسطة يمنع بها سلبيات ما قد ينتج من سوء استخدام لتلك المفاهيم والأعمال:
أولا: حذرت من الخلوة بين الجنسين الغير مرتبطين بعلاقة زواج أو تحريم , وهي (الاختلاء بينهما في مكان لا يطلع عليهما فيه أحد ولا على ما يمكن أن يجري بينهما) منعت ذلك منعا باتا بحديث النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم "لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم " , فمنعت بذلك مشكلات لا حصر لها يمكن أن تقع مع هذا الاختلاء
ثانيا: منعت خروج المرأة متزينة ومتعطرة , وأمرت بخروجها بحجابها , تخفي زينتها عن الناس , فتبدو وقورة كريمة , وتعطي انطباعا لمن يتعامل معها بالجدية والفاعلية والاحترام , لا بالليونة والضعف والرغبة في اجتذاب الأنظار , كما يمنع حجابها وسوسات سيئي الأخلاق وذئاب الناس وذوي أمراض الشهوة وتافهي الطباع.
ثالثا: منعت خضوعها في القول , وليونتها في الحديث , فجعلت حديثها جادا وكلماتها قليلة معبرة وقورة موجهة , وتعليقاتها في مكانها عند تعاملها مع الآخر
رابعا: وجهت نحو تجنبها خلطة مجامع الرجال , ولو دعت الحاجة إلى ذلك أمرتها بالاجتناب عنهم , والتميز عن صفهم.
والانحياز عن زحامهم , فعن حَمْزَةَ بْنِ أَبِى أُسَيْدٍ الأَنْصَارِىِّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ وَهُوَ خَارِجٌ مِنَ الْمَسْجِدِ فَاخْتَلَطَ الرِّجَالُ مَعَ النِّسَاءِ فِى الطَّرِيقِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لِلنِّسَاءِ «اسْتَأْخِرْنَ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَكُنَّ أَنْ تَحْقُقْنَ الطَّرِيقَ , عَلَيْكُنَّ بِحَافَاتِ الطَّرِيقِ»
خامسا: نبهت وشجعت وأمرت بغض البصر , وتحجيم الطرف نظرا للجنس الآخر نظرات إعجاب أو افتتان , وأباحت نظر الفجأة أو نظر الحاجة , فصار الحديث مهذبا والمتحدث غاضا للطرف حييا كريما.
المؤسسات الاجتماعية والاختلاط:
إن الأخبار والمعلومات التي تأتينا من المؤسسات المختلطة بين الجنسين والتي يقصها علينا المسئولون عنها والمربون فيها , سواء من مدارس أو جامعات أو غيرها , والتي تنشرها في كل حين مراكز الدراسات المتخصصة والمعتمدة , لتشى بحذر بالغ فيما يخص وضع الجنسين معا في تلك المؤسسات..
اعرف مدرسة مختلطة في المرحلة الإعدادية – المتوسطة – في دولة عربية معروفة , اخبرني طبيبها المسئول عن صحة أبنائها أنهم بينما هم يوقعون كشفا دوريا على الطالبات , فوجئوا بعلامات حمل لإحداهن وهي التي لم تبلغ بعد سن الرابعة عشر من السنين.
وبعدما ثار الشك عند إدارة المدرسة ووقعت كشفا كاملا على جميع الطالبات , إذا بهم يكتشفون 14 حالة حمل سفاح , ويكتشفون معها خمس حالات زواج سموه عرفيا بين الطلبة والطالبات , كان الطلبة فيها شهود عليها بأنفسهم.. هذه حالة لاتزال قائمة أمام أعيننا..
أما عن حالات الزواج العرفي الفاسد والزنا والوقاع وغيرها فهي كثيرة جدا ومعروفة وتجد نسبتها في المؤسسات المختلطة مقارنة بغير المختلطة كبيرة جدا مضاعفة.
إضافة إلى مشكلات متكاثرة بين الشباب أنفسهم للفوز بالبنات , وتضاعف الاهتمام بالمظهر والملبس والمركب , بشكل مَرضي بالغ.
إضافة إلى ضعف الإنتاج الدراسي وقلة التركيز مع قلة الإنجاز العلمي.. وغيرها
كل هذا ملموس معروف لايكابر فيه أحد , وأمامي أثناء كتابة هذا المقال كثير من نتائج الدراسات العلمية التي تؤكد هذه المعاني بلا أدنى شك..
ملاحظتان:
يبقى بعد ذلك ملاحظتان أريد التوجيه لهما..
الأولى أن كثيرا من المنادين بمؤسسات مختلطة يرون أن تلك النتائج السيئة سابقة الذكر وهذه الأمراض المنتشرة ليست قاصرة على المؤسسات المختلطة لكنها عامة في شتى المؤسسات.
لكن ردنا ههنا ينبغي أن يكون بشكل علمي مقنن , فالواقع بالفعل يدل على وجود ذلك في الخارج , لكنه أيضا يدل بكل وضوح على تضاعف تلك النسب وهذه الأعداد من الأمراض في المؤسسات المختلطة
الملاحظة الثانية , وهي مرتبطة بالأولى , أن الشريعة الإسلامية قد وضعت قانونا وقاعدة وضابطا في مثل تلك المواقف والأحوال التي يترتب عليها الضرر المتحقق أو المظنون.
هي قاعدة سد الذرائع , ومنع ما يمكن أن يوصل إلى الضرر والخطأ والذنب , فكيف يكون هنالك نكير على من تمسك بها وهي مأخوذة من المعاني الاصيلة للشريعة الغراء؟!
الكاتب: عيسى بن مانع
المصدر: موقع المسلم